فصل: قال ابن كثير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وجملة: {والله لا يحب كل كفار أثيم} معترضة بين أحكام الربا.
ولما كان شأن الاعتراض ألاّ يخلو من مناسبة بينه وبين سياق الكلام، كان الإخبار بأنّ الله لا يحبّ جميع الكافرين مؤذنًا بأنّ الربا من شعار أهل الكفر، وأنّهم الذين استباحوه فقالوا إنّما البيع مثل الربا، فكان هذا تعريضًا بأنّ المرابي متَّسم بخلال أهل الشرك.
ومفاد التركيب أنّ الله لا يحبّ أحدًا من الكافرين الآثمين لأنّ كل من صيغ العموم، فهي موضوعة لاستغراق أفراد ما تضاف إليه وليست موضوعة للدلالة على صُبرة مجموعة، ولذلك يقولون هي موضوعة للكل الجميعي، وأما الكل المَجموعي فلا تستعمل فيه كل إلاّ مجازًا.
فإذا أضيفت كل إلى اسم استغرقتْ جميع أفراده، سواء ذلك في الإثبات وفي النفي، فإذا دخل النفي على كل كان المعنى عموم النفي لسائر الأفراد؛ لأنّ النفي كيفية تعرض للجملة فالأصل فيه أن يبْقَى مدلول الجملة كما هو، إلاّ أنه يتكيّف بالسلْب عوضًا عن تكيّفه بالإيجاب، فإذا قلت كلُّ الديار مَا دخلتُه، أو لم أدخل كلّ دار، أو كلّ دار لم أدخل، أفاد ذلك نفي دخولك أيةَ دار من الديار، كما أنّ مفاده في حالة الإثبات ثبوت دخولك كلّ دار، ولذلك كان الرفع والنصب للفظ كل سواء في المعنى في قول أبي النَّجم:
قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي ** عَلَيّ ذنبًا كُلُّه لم أصنع

كما قال سيبويه: إنّه لو نصب لكان أولى؛ لأنّ النصب لا يفسد معنى ولا يخلّ بميزان.
ولا تخرج كل عن إفادة العموم إلاّ إذا استعملها المتكلم في خبر يريد به إبطال خبر وقعت فيه كل صريحًا أو تقديرًا، كأنْ يقول أحد: كل الفقهاء يحرّم أكل لحوم السباع، فتقول له: ما كل العلماء يحرّم لحوم السباع، فأنت تريد إبطال الكلية فيبقى البعض، وكذلك في ردّ الاعتقادات المخطئة كقول المثَل: «ما كل بيضاء شَحْمة»، فإنّه لردّ اعتقاد ذلك كما قال زفر بن الحارث الكلابي:
وكُنَّا حَسِبْنا كُلّ بَيْضَاء شحمةً

وقد نَظر الشيخ عبد القادر الجرجاني إلى هذا الاستعمال الأخير فطرده في استعمال كل إذا وقعت في حَيّز النفي بعد أداة النفي وأطال في بيان ذلك في كتابه دلائل الإعجاز، وزعم أنّ رجز أبي النجم يتغيّر معناه باختلاف رفع كل ونصبه في قوله كلّه لم أصنع.
وقد تعقّبه العلامة التفتازاني تعقّبًا مجملًا بأنّ ما قاله أغلبي، وأنّه قد تخلّف في مواضع.
وقفّيت أنا على أثر التفتازاني فبيّنت في تعليقي الإيجاز على دلائل الإعجاز أنّ الغالب هو العكس وحاصله ما ذكرت هنا. اهـ.

.قال ابن كثير:

يخبر الله تعالى أنه يمحق الربا، أي: يذهبه، إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يَحْرمَه بركة ماله فلا ينتفع به، بل يعذبه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة. كما قال تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100]، وقال تعالى: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّم} [الأنفال: 37]، وقال: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّه} الآية [الروم: 39].
وقال ابن جرير: في قوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «الربا وإن كثر فإلى قُلّ».
وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده، فقال: حدثنا حجاج قال حدثنا شريك عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري عن أبيه، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل».
وقد رواه ابن ماجة، عن العباس بن جعفر، عن عمرو بن عون، عن يحيى بن أبي زائدة، عن إسرائيل، عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري، عن أبيه، عن ابن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة».
وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود، كما قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا الهيثم بن رافع الطاطري، حدثني أبو يحيى- رجل من أهل مكة- عن فروخ مولى عثمان: أن عمر- وهو يومئذ أمير المؤمنين- خرج إلى المسجد، فرأى طعاما منثورًا. فقال: ما هذا الطعام؟ فقالوا: طعام جلب إلينا. قال: بارك الله فيه وفيمن جلبه. قيل: يا أمير المؤمنين، إنه قد احتكر. قال: ومن احتكره؟ قالوا: فروخ مولى عثمان، وفلان مولى عمر. فأرسل إليهما فدعاهما فقال: ما حملكما على احتكار طعام المسلمين؟ قالا يا أمير المؤمنين، نشتري بأموالنا ونبيع!! فقال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالإفلاس أو بجذام».
فقال فروخ عند ذلك: أعاهد الله وأعاهدك ألا أعود في طعام أبدًا. وأما مولى عمر فقال: إنما نشتري بأموالنا ونبيع. قال أبو يحيى: فلقد رأيت مولى عمر مجذومًا.
ورواه ابن ماجة من حديث الهيثم بن رافع، به. ولفظه: «من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس». اهـ.

.أسئلة وأجوبة:

قوله تعالى: {يمحق الله الربا ويربى الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم}، وفى سورة النساء: {إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل}، وفى موضع ثان بعد: {إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما} وفى سورة الحديد: {والله لا يحب كل محتال فخور الذين يبخلون}.
للسائل أن يسأل في هذه الآى عن شيئين أحدهما: ما وجه اختصاص كل آية من هذه الأربع بالوصف المذكور فيها الموجب لكونه تعالى لا يحب المتصف به؟
الثانى: أن تلك الأوصاف إذا كانت موجبة لما حكم به تعالى عليهم من أنه لا يحبهم وقد استوت في إيجاب هذا الحكم فما وجه اختصاص آيتى النساء منها بتأكيد ذلك الحكم بأن ورود آية البقرة وآية الحديد معطوف فيهما ما ورد في آيتى النساء مؤكدا بإن وهل ذلك لموجب يقتضيه؟.
والجواب عن الأول: أن وجه اختصاص كل آية منها بما ورد فيها من الوصف الموجب لكونه تعالى لا يحب المتصف به مناسبة كل آية منها لما تقدمها.
أما آية البقرة فإن قبلها قوله تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا}.
فوصفهم بأكل الربا حتى أعقبهم ذلك تخبطهم في قيامهم كفعل المجانين وأنهم سووا بين البيع المشروع والربا الممنوع وذلك كفر وتكذيب فوصفوا بما يقتضى المبالغة في مرتكبهم من منع حب الله تعالى إياهم فقال تعالى: {والله لا يحب كل كفار أثيم}، وفعال وفعيل أبنية للمبالغة وهو وصف مناسب لحالهم.
وورد قبل آية النساء قوله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم}.
فأمرهم سبحانه بعبادته وتوحيده وبالإحسان إلى المذكورين في الآية ومن الإحسان إليهم خفض الجناح ولين المقال والإنصاف بما وصف الله به من يحبهم في قوله: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين}، والاختلال والفخر مضاده لهذه الأوصاف الحميده مانعة منها ولا يمكن معها الإحسان المطلوب في الآية فلهذا أعقبت بقوله تعالى: {إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا}.
فان المنصف بهذا متصف بنقيض الإحسان فمناسبة هذا بينة.
وأما الآية الثانية من سورة النساء فقد تقدمها قوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما}، ثم قال: {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم}، قدم الخائنين وحذر نبيه صلى الله عليه وسلم من معاونتهم والجدال عنهم وأعقب بأنه لا يحب من اتصف بصفاتهم فقال تعالى: {إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما}، وتناسب هذا أوضح شئ.
وأما آية الحديد فإن قبلها قوله تعالى: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم} الآية فناسب هذا قوله تعالى: {والله لا يحب كل مختال فخور}.
فقد وضحت مناسبة كل آية من هذه لما اتصلت به وإن كان كل آية من هذه المعقبات لا يلائمها غير ما اتصلت به والله أعلم.
وقد وضع في هذا الجواب جواب السؤال الثانى وهو أن آية البقرة إنما ترتبت على آكلى الربا والمسوين بينه وبين البيع المشروع وهؤلاء صنف واحد ومرتكبهم واحد وأن آية الحديد ترتبت على حكم الخيلاء والفخر وذلك إذا تحقق أيضا راجع إلى الكبر فالمادة واحدة.
أما آية النساء فإن الأولى منها تقتضى بحسب من ذكر فيها واختلاف أحوالهم تفصيل المرتكب وتعداد المطلوب فيها وقد اشتملت على أمر ونهى فناسب اتباع المطلب تأكيد الخبر المترتب عليه من الجزاء فأكد بأن المقتضية تأكيد الخبر وكذلك الآية الثانية لأن خيانة النفس تنتشر مواقعها فتارك الطاعة قد خان نفسه وفاعل المعصية كذلك وأفعال الطاعة كثيرة لا تنحصر وكذلك المخالفات فناسب الكثرة التأكيد وهذا كله بخلاف آية البقرة وآية الحديد في المرتكب فيهما كما تقدم فجاء كل على ما يناسب والله أعلم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال القشيري:

ما كان بإذن منه سبحانه من التصرُّفات فمقرون بالخيرات، ومصحوب بالبركات. وما كان بمتابعة الهوى يُسَلِّط عليه المَحْقَ، وكانت عاقبة أمره الخسران. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قوله تعالى: {يَمْحَقُ الله الربا}.
قال ابن عرفة: الأحكام الشرعية منطوية بمصالح الدنيا والآخرة، فلمّا تضمن الكلام السّابق حصول المصلحة الأخروية بالصدقة لقول الله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} والعقوبة في الآخرة لفاعل الرّبا تضمّن هذا أنّه محصل للمصلحة الدنيوية، والربا متضمن للمسفدة الدنيوية لأنّ الربا ممحقة للمال والصدقة زيادة فيه.
وحمله ابن عطية على أنه في الدار الآخرة.
والظاهر الأول.
وبدأ هنا بالرّبا، وفيما تقدم بالصدقة وطريق المقابلة واللّف والنشر العكس.
لكن الجواب لما كان ذكر الصدقة قد يطول الكلام فيه قدّم الكلام على الربا ثم عاد إلى الصدقة.
فإن قلت: هلا قيل يمحق الله المال الذي فيه الرّبا فهو أبلغ في التخويف لأن محق المال الذي فيه الرّبا أشد لاستلزامه محق الربا وزيادة؟
فالجواب: أن هذا أجلى من محق الربا والمخاطبون عوام.
قوله تعالى: {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}.
قال ابن عطية: يحتمل أن يريد: والله لا يحب توفيق الكفّار الأثيم. قاله ابن فورك.
ابن عطية: وهذا غير صحيح لأن الله تعالى يحب التوفيق على العموم ويحببه.
قلت: وسمعت القاضي أبا العباس بن حيدرة والمفتي أبا القاسم الغبريني يقولان: هذه نَزْغَةٌ اعتزالية غفل فيها واعتزل من حيث لا يشعر، بل الله يحب الخير والشر تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد والرجل سني لا شك في فضله ودينه.
قال ابن عرفة: إن قلنا: إن نقيض المستحب مكروه فالمعنى ظاهر وإن قلنا: إن نقيضه غير مكروه فهلا قيل: والله يكره كل كفار أثيم، لأن نفي المحبة أعم من الكراهة وعدمها.
قال: وعادتهم يجيبون بقول العرب في المدح التام حبذا زيد.
وفي الذم التام لا حبذا زيد فنفي المحبة عندهم يستلزم الكراهة.
فإن قلت: هلا قيل: والله لا يحب كل كافر أثيم فهو أبلغ؟
قلت: إنه لما كان النفي أخص كان المنفي أعم. اهـ.